[5] يوم العـــالم
كان فضل الله على رسوله سيدنا محمد عظيما وكان فضل رسول الله على العالمين عظيما ولو كان رسول الله نبيا لأمة من الأمم لكان على هذه الأمة وحدها أن تجد يوم مولده روعة الذكرى ولذة عرفان الجميل ولكنه رسول الله إلى الأمم قاطبة وبعثته شاملة كاملة فذلك قول الله تبارك وتعالى فى سورة سبأ ﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾ فهو نبى الأمم ورسول الشعوب جميعا بل أن رسالته شملت من تقدمه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وأحاطت بمن تأخر عنه من الأمم فلقد أخذ الله له العهد والميثاق على أنبيائه ورسله أن بعث فيهم ليؤمنن به وليكونن من نصرائه وليؤيدن دعوته فذلك قول الله تبارك وتعالى فى سورة آل عمران ﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ فهو بذلك نبى المتقدمين والمتأخرين .
ولو كانت بعثته وهدايته قاصرة على المتقدمين والمتأخرين من هذا الجنس البشرى لكان هذا الواجب الروحى فى عنق بنى الإنسان جميعا بيد أنه مع هذا رسول الله إلى ذلك الجنس اللامادى الذى حكى عنه أنه استمع من رسول الله القرءان فتأدب لسماعه وفهم مرماه وآمن به وبشر قومه وكان فى ذلك خيرا من كثير من الأناسى فذلك قول الله تبارك وتعالى فى سورة الأحقاف ﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرءان فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى أهلهم منذرين قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعى الله وءامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز فى الأرض وليس له من دونه أولياء اولئك فى ضلال مبين ﴾ .
أفلا ترى هؤلاء وقد سمعوا الذكر فتأدبوا فى حضرته وتفقهوا فى غايته ثم إنطلقوا يدعون قومهم إلى الإيمان بداعى الله والتسليم لرسول الله وينذرونهم أنهم إن لم يفعلوا فلن يعجزوا الله فى الأرض وسينتقم الله منهم ويكونون فى ضلال مبين وإذن فهذا الواجب الروحى ليس قاصرا على هذا الجنس البشرى بل هو واجب على الثقلين وقد إستضاء كلاهما بنور هدايته وروى من معين رسالته .
وليس هو خفى المنزلة على غير من آمن به من الكائنات أو مجهول المقام عند غير الثقلين من المحلوقات بل إن ذكره فى الملأ الأعلى اشرف وأسنى من ذكره فى هذا الملأ الأدنى ةلقد شرفت عوالم الملكوت بزيارته كما شرفت عوالم الملك بإقامته وفى القرءان شاهد ذلك وفى السنة دليله وإقرا إن شئت قول الله تبارك وتعالى ﴿ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم صراط الله الذى له ملك السموات وما فى الأرض ﴾ مع قوله تعالى ﴿ سبحان الذى أسرى بعبد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذة باركنا حوله لنريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير ﴾ ولأمر ما قال الحق تبارك وتعالى ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ . وإذن فهذا الواجب الروحى واجب على الكون كله , أرضه وسمائه وإنسه وجنه إذ كانت رسالته هدى وبركة وخير ويمن ورحمة للعالمين .
ولو كان بعد رسول الله رسول لكان للمقصرين شبه عذر فى التراخى عن إحياء هذه الذكريات فى نفوسهم أما ورسول الله خاتم النبيين وآخر المرسلين انتهى الوحى إليه وختمت النبوة برسالته فذكرياته نبراس المهتدين ودليل السارين انتهت إليها الهداية ووقف عندها الإرشاد فلا محيص عنها لسواها ولا معدل إلى غيرها والله تبارك وتعالى يقول ﴿ ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ﴾ .
لقد علمنا رسول الله ﴿ أن نقول الحق للحق وأن تخالط قلوبنا بشاشة الإيمان وأن ندع الناس حتى يروا من آيات الله ما يحملهم على التسليم والإذعان .
وقد عرفنا من فضل رسول الله ما هو فوق مستوى العبارات والأفاظ وإن قوما ممن حصروا أنفسهم فى حدود البحث الضيق وجمدوا على هذا الحصر فلا يرون منه مخرجا قد يرون ما نقول تصدير كاتب أو عاطفة محب متعال فيمن يحب فليعلم إخواننا أننا نعنى ما نقول ونعتقد أن ما نكتب حقيقة ماثلة لا خيالا مفروضا ولا تصويرا مبتكرا ولو شئنا أن نقول لهم إن ما علمتم من علوم هذا العصر إن نؤيد ما ذهبنا إليه وتدعم ما أوردناه لقلنا وأفضنا فى ذلك وليس فى الأمر مستغرب ولذلك مقام آخر ولكل مقام مقال ولم يطو بعد بساط البحث وستظل الأقلام تكتب وتشتحر والألسنة تقول وتتخلل وعظمة رسول الله على ما هى عليه سر محجب وكنز مغيب لم تصل إلى كنهها كتب الكاتبين ولم تستطع تصوير حقيقتها ألسنة القائلين , ولعمر أبيك إنها العظمة التى أمدها الله بفيضه وخلع عليها من نهمته وفضله وامتن على صاحبها بقوله ﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ تقصر دونها عظمة المظماء وتنحسر أمامها مراتب الملوك والأمراء .
رتب تسقط الأمانى حسرى دونها ما وراءهن وراء
فأنّى للقام أن يحيط بفيض لا ينتهى مدده وأنّى للقول أن يلم بمدى لا يدرك أمده وأنّى للعقول أن تتطاول إلى إدراك معنى جعله الله أسمى من متناول العقول والأفهام وأنّى للزمن أن ينال من خلود أراد الحق أن يكون أبقى من السنين والأعوام .
أيها المسلمون : أذكروا عظمة رسول الله فى يوم مولده وفى كل وقت واستمدوا من هذه الذكرى روح العظمة الصحيحة والعزة القويمة وأذكروا بأنكم بخير أمة توصفون وإلى أفضل نبى تنتسبون فلا تستنيموا إلى مذلة ولا تركنوا إلى هوان ودعوا هذه المنازل الصغيرة التى لا تدل على غير العبث والمجون واللهو والفضول والغفلة والصغار فى يوم شرف العالم فيه بظهور أسمى رمز للعزة والفخار وبمولد رسول الله
[6] ذكرى مولد رسول الله
الحمد لله الذى أنار الوجود بطلعة أبى القاسم , وشرفه بأفضل المواهب وأجزل المكارم وبعثه هاديا للأمم وسراجا فى الظُلَم ورحمة للعالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله وحبيبه وصفيه اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداهم إلى يوم الدين .
أما بعد ... فيا أمة سيدنا محمد قبل مبعث نبيكم تغشت العالم كله سحابة من الظلم والفساد والفسوق والإلحاد إختل فيها ميزان العدل وإختفى معها وجه الحق وضل الناس طريق الهدى والرشاد , ففى العرب على كرم أخلاقهم وشريف نفوسهم , وقويم طباعهم وسلامة فطرتهم , جهل وغلظة وجفوة وقسوة , وشرك بالله وإنغماس فى حمأة الشقاق والخلاف , وفى الفرس والروم وغيرهما من دول الأرض ظلم وإستبداد وقسوة وإستعباد وتسلط من القوى على الضعيف وإنتهاك لحرمات الشرائع والآداب فكان لابد لهذا العالم الموبوء ولهذه البشرية المعذبة والإنسانية الباكية والفضيلة المستذلة من منقذ يقيم ميزان العدل ويخفى دولة الظلم ويحق الحق ويبطل الباطل ويخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض .
وقد أراد الله تبارك وتعالى أن يكون هذا المنقذ الكريم والمصلح العظيم صفوته من خلقه وخيرته من عباده سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وعلى آله وصحبه .
لم تزل فى ضمائر الكون تختار له الأمهات والآباء , إختار الله من خلقه بنى آدم وإختار من بنى آدم العرب وإختار من العرب قريش وإختار من قريش بنى هاشم وإختاره من بنى هاشم فهو خيار من خيار وأنت إذا فحصت عن طبائع الأمم وسألت تاريخ الجماعات عن هذا الحكم رأيت البحث العلمى والتحليل النفسى يؤيد لك هذا الخبر النقلى ﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ﴾ .
ولم يزل نوره الساطع يتنقل من أصلاب الطاهرين إلى ارحام الطاهرات عن زوراج شرعى لا عن سفاح حتى إنتهى ذلك الشرف إلى أبيه عبد الله بن عبد المطلب أزكى قريش أصلا وأنماها فرعا وأوسطها دارا وأطهرها منبتا وإلى أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم وهى سيدة نساء قومها وأشرفهن موضعا وأعفهن نفسا , وفكان عن إجتماع الكريمين وزواج السيدين أن تحققت إرادة الله فى إسعاد العالم وإشراق شمس الهداية والعرفان فى سماء مكة المكرمة حتى ملأت أشعتها كل مكان فحملت به وتوفى والده وهو حمل لا تجد له أمه وجعا ولا ألما ولا تستشعر منه أذى ولا وحما وما زالت تتوالى الإرهاصات وتتتابع البشارات وتظهر العلامات حتى كانت الليلة الكريمة فولد يشرق وجهه بنور العرفان وتتجلى على قسمات وجهه الشريف سمات النبوة والإيمان ويعتقد من نظر إليه أنه رسول هذا الزمان , فإزدان الكون بطلعته واستبشر الوجود برؤيته واستنارت السموات والأرضون بظهوره وتوالت بشرى الهواتف أن قد ولد المصطفى وحق الهناء .
وشب ونشأ فكان مثال الكمالات وأنموذج الفضائل وتزوج بالسيدة خديجة وسنه خمس وعشرون سنة لما رأته عليه من كريم الشمائل واشتهر بين عشيرته بالصدق والأمانة والعقل والرزانة ومازال كذلك حتى جاء الحين واستكمل الأربعين فشرفه ربه بالنبوة ثم الرسالة إلى الخلق أجمعين ونزل عليه الملك وهو يتعبد فى غار حراء بقوله تعالى : ﴿ إقرأ باسم ربك الذى خلق , خلق الإنسان من علق , إقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم , علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ ثم فتر عنه الوحى ثم تتابع ونزلت ﴿ يا أيها المدثر , قم فأنذر ﴾ فنهض بالدعوة وحمل عبء الرسالة وأدى الأمانة وبلغ ما أنزل إليه من ربه وقام يدعو إلى مولاه وينشر على الناس دينه حجته القرءان ودليله البرهان وعدته الإيمان , وما زال يكافح ويناضل ويجادل طورا بالشدة وأخرى باللين ويتحمل من الأسى ما تنوء بحمله الجبال ويدعو للمعتدين حتى أظهر الله كلمته وأتم نعمته وأكمل دينه ودخل الناس فى دين الله أفواجا وإختار النبى الرفيق الأعلى بعد أن ادى مهمته وأوضع شرعته وترك من ورائه من يحمون دعوته جزاه الله أفضل ما جزى به نبيا عن امته ورضى الله عن صحابته .
يا عباد الله ... ذلك مجمل سيرة نبيكم كلها هدى ونور وعظة وإعتبار وتمسك بحبل الله المتين ودفاع عن دينه المبين ومناصرة الحق وخذلان الباطل , فيها القدوة الحسنة والعظة البالغة والعلم النافع والمثل الصالح فتعلموها وعلموها أبناءكم وأحيوا ذكرى مولد نبيكم بدراسة حياته وتفهم خطته وإحياء سنته , أما الرياء والتفاخر والتكاثر والتظاهر وضياع المال فى غير فائدة , وإنفاق الأوقات من غير جدوى , والإشتغال بالمقابلات والحفلات عن الفروض والواجبات , والفخر بإطعام الأصدقاء والأغنياء ونسيان المستحقين والفقراء وإقامة هذه المظاهر التى يأباها الدين وتجعلنا مضغة فى أفواه الناظرين , فهذه كلها ليست إلا منكرات تؤاخذون بها وتحاسبون عليها ويتالم لها النبى الكريم .
فإتقوا الله عباد الله , وإنتهزوا فرصة هذا الوقت الفاضل وجددوا التوبة النصوح وتذكروا سيرة نبيكم لتعملوا بها وتهتدوا بهديها .
﴿ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾ .
فى حديث على كرم الله وجهه وقد سأله الحسين عن سيرة جده فى جلسائه , فقال : " كان رسول الله دائم البشر , سهل الخلق , لين الجانب , ليس بفظ ولا سخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤبس منه , قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء , والإكثار , وما لا يعنيه , وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ولا يعيره ولا يطلب عورته ولا يتكلم إلا شيئا يرجو ثوابه " .
[7] الإحتفال بالمولد النبوى الكريم
يدور الفلك دورته ويشرق وجه الكون بذكرى اليوم الذى شرق قيه العالم كله بطلعة سيدنا محمد فتخفق قلوب الأمة المحمدية فرحا وسرورا وتهتز جوانحهم بالعواطف الكمينة من حب النبي وإجلاله وإعظامه والحنين إلى ذكرياته والشوق إلى رؤيته والاعتراف بفضله على الإنسانية جميعا .
ويقول بعض الناس إن الاحتفال بذكرى المولد بدعة لأنه حدث فى الدين لم يكن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أصحابه من بعده .
ويقول البعض الآخر هو أمر واجب لأنه دليل الحب والإعظام والتعلق بذات الرسول وذلك كله واجب على المسلمين .
وإذا أردنا أن نبين وجه الحق فى هذا الحكم ، فعلينا أن نتذكر الدافع الذى دفع المحتفل إلى احتفاله والمظهر الذي أعرب به عن شعوره فإن كان الذي حدا به إلى الاحتفال هو الحب والتعظيم وكانت مظاهر الاحتفال درس علم ينتفع به أو صدقة تعود على فقير أو عبادة خالصة لوجه الله تعالى أو نحو ذلك مما يجيزه الشرع ويحصل به ثواب الله تعالى , فالاحتفال حينئذ قربة إلى الله تعالى , وقد يستدل له بما ورد من أن أبا لهب يخفف عنه العذاب بعض التخفيف لسروره ببشرى مولد النبي حين حملته له جاريته ثويبة فأعتقها , وأما أنه لم يقع فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله أصحابه فهو لأن مظاهر الحياة فى عهدهم كانت على حالة من البساطة تجعلهم لا يفكرون فى شئ من هذه المظاهر ، وحسب أحدهم أن يظهر شعوره بكلمة يقولها أو بعاطفة تتردد بين حناياه ومتى كان الدافع شرعيا والعمل الذى ترتب عليه ليس فيه ما ينكره الدين فلا وجه للقول بالمنع حينئذ .
وإن كان الذى حدا بالمحتفل إلى عمله عادة ورثها عن أبيه وقومه أو ولعا بالفخر والظهور ليتحدث الناس بعمله وكانت مظاهر حفله لا تتفق مع ما شرع الله تبارك وتعالى لعباده ولا تخرج عن اللهو والعبث والطبل والزمر والصريخ فى غير طائل والاشتغال بهذا الحفل حتى عن الفرائض وضياع الأوقات فى غير فائدة وحشد الناس فى صعيد واحد يختلط فيه النساء بالرجال وتكثر فيه الموبقات والمناهك وتنتهك حرمات الله تبارك وتعالى فلا ترى إلا غفلة مستحكمة وسخرية مخزية ومناظر يندى لها جبين الإنسانية ويتقطع فؤاد المسلم حسرة وأسفا ويبرأ منها الإسلام ، فهذا حفل منكر وإثم كبير على صاحبه والمشارك فيه وهو أشد ما يؤلم النبى ويؤذيه .
فليلاحظ المسلمون هذا وليجعلوا احتفالهم بذكرى مولد النبى كل عام تفهما لسيرته وتعلما لأخلاقه وتعرفا لسنته وتواصيا فيما بينهم بالحق والصبر إقتداء به وبأصحابه , ﴿ لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾ .